مدينة النحاس: أسطورة القزويني بين الحقيقة والخيال
في عمق كتب التراث، وبين سطور الغرائب التي تنقلها الألسنة عبر القرون، نجد مدينةً أثارت العقول وألهبت الخيال، مدينة لم تُعرف لها بداية ولا نهاية، مدينة النحاس.
اسمٌ وحده يحمل في طياته طنين الغموض ورهبة المجهول. ورد ذكرها في كتاب "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" للعالم المسلم زكريا القزويني، ولكن لم تكن تلك هي المرة الوحيدة التي ورد فيها اسم المدينة. فقد تناقلت الأجيال حكاياتها، وكل جيل أضاف إليها لمسته من الرهبة والسحر. فمن تكون هذه المدينة؟ وما السر الكامن خلف أبوابها النحاسية؟
أسطورة المدينة التي بُنيت بيد غير البشر
تحكي الأسطورة أن مدينة النحاس شُيدت في زمنٍ غابر، في أقصى المغرب الأقصى، على مقربة من بحر الظلمات، الذي يُعتقد أنه المحيط الأطلسي. يُقال إنها لم تكن من صنع بشر، بل شُيدت بأمر من أحد الملوك العظام، واستُعين فيها بالجنّ لبنائها. كل قطعة من جدرانها كانت مطلية بالنحاس، وكل باب مغلق بسحرٍ لا يُفك، وكل زاوية فيها تنطق بعظمةٍ لا تُقارن.
لكن ما الذي دفع الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان لإرسال بعثة بقيادة موسى بن نصير نحوها؟ هل كان بدافع الطمع؟ أم الفضول؟
رحلة موسى بن نصير: الخطوة نحو المجهول
في واحدة من أغرب الحملات الاستكشافية في التاريخ الإسلامي، انطلق موسى بن نصير، القائد الشهير الذي فتح الأندلس، في مهمة غامضة إلى أطراف المغرب. الرواية تقول إنه كان يحمل أمرًا مباشرًا من الخليفة، وأن الهدف كان الوصول إلى مدينة النحاس التي تحدّث عنها البدو والرواة.
سار موسى وجيشه في الصحراء أسابيع، حتى ظهرت لهم أسوارٌ شاهقة من النحاس، تعلوها نقوش لم تُفك حتى اليوم. المدينة كانت محاطة بجوّ غير مألوف، وكأنها معزولة عن العالم، في عالمها الخاص.
حاول الجنود تسلق الأسوار، لكن كل من اقترب منها، اختفى أو أصيب بصعقة قاتلة. يُحكى أن أصواتًا غريبة سُمعت من داخل المدينة، وأن تماثيل من الذهب تحرس المداخل، عيونها تلمع كما لو كانت حيّة.
ألغاز وأسئلة لا تنتهي
من بنى المدينة؟
إذا كانت المدينة حقيقية، فمن الذي بناها؟ الروايات تتحدث عن أن الجنّ شاركوا في البناء، وأن هناك طلاسم وأختامًا لا يستطيع فكّها إلا من يمتلك علمًا عظيمًا.
ماذا عن تلك النقوش؟
تم تصوير النقوش بأنها خليط من رموز غير معروفة، ربما كانت كتابة سحرية، أو لغة قديمة اندثرت. البعض يربطها بالكتابة الفينيقية، وآخرون يرون فيها أثارًا أمازيغية.
والتماثيل الذهبية؟
التماثيل تمثل بشرًا يرتدون ملابس غريبة، ويُقال إن بعضها يتحرك إذا اقترب منها أحد. هل كانت مجرد رموز دينية؟ أم أنها آلات بدائية من عصرٍ متقدّم؟
النظريات الحديثة: ماذا يقول العلم؟
رغم غياب الأدلة الأثرية المباشرة، فإن بعض الباحثين طرحوا نظريات مثيرة:
مدينة تكنولوجية قديمة
إذا كانت مبنية من النحاس، فهذا يشير إلى حضارة متقدمة في علم التعدين. هل يمكن أن تكون هذه المدينة أثراً لحضارة لم تُكتشف بعد؟ حضارة سبقت زمانها وانهارت فجأة؟
ارتباطها بأطلانتس
أوجه الشبه بين مدينة النحاس وأسطورة أطلانتس لافتة للنظر. كلاهما مدن ضاعت في المجهول، وبُنيت بتقنيات متقدمة، واختفت دون أثر.
أطلال قرطاج؟
يرى البعض أن موسى بن نصير ربما وصل إلى أطلال قرطاج، المدينة الفينيقية التي دمرها الرومان. ما تبقى من معمارها قد يُفهم على أنه مدينة أسطورية.
في كتب التراث: مدينة لا يُقترب منها
ليس القزويني وحده من ذكرها. ورد ذكر مدينة النحاس في كتابات الإدريسي، والمسعودي، وابن خلدون، وإن اختلفت التفاصيل. الكل اتفق على شيء واحد: المدينة محصنة، وخطر الاقتراب منها كبير.
هناك من تحدّث عن قوافل دخلت المدينة ولم تعد، ومن رأى أطيافًا تحوم حول أسوارها، ومن سمع موسيقى غريبة تنبعث من داخلها ليلاً.
الطلاسم التي تحرس المدينة
من القصص المتداولة أن المدينة محمية بطلاسم سحرية، بعضها من نوع لم يُرَ من قبل. هناك من حاول فكّ رموزها، لكنه أصيب بالجنون.
يقال إن أحد علماء المغرب دخلها في القرن الخامس الهجري، وعاد ليكتب صفحات عن أبنية تتحرك، وأبواب تُفتح دون أن يلمسها أحد، وغرف تنقلك إلى أماكن مختلفة كما لو كانت بوابات زمنية.
بين الأسطورة والواقع: هل نحن أمام خرافة؟
ربما يقول البعض إن كل هذه القصص مجرد خيال تراثي، مبالغات كتبها الرواة. لكن، ألا تستحق هذه القصص النظر مرة أخرى؟ في عالمنا، كم من حضارات ضاعت واعتُبرت خرافة، قبل أن يُكتشف أنها حقيقية؟
تروي القصة أن موسى بن نصير عاد إلى الخليفة عبد الملك، وأقسم له أن المدينة ليست من هذا العالم. وأن من يقترب منها، يعود بعينين زائغتين، وذاكرة مشوشة.
الخاتمة: هل ما زالت هناك؟
تظل مدينة النحاس لغزًا مفتوحًا. لا أحد يعلم إن كانت طُمرت تحت رمال المغرب، أم لا تزال قائمة خلف سحب الوهم. ربما تنتظر من يعثر على مفتاح أبوابها، أو من يمتلك العلم الذي يوقظها.
لكن إن صادفتها يومًا، إن رأيت أسوارها تلمع في الأفق، فكر مرتين…
هل ستقترب؟ أم تكتفي بالنظر، وتدير ظهرك… كما فعل موسى بن نصير؟